منوعات

هل الشخصية وهم؟

يُعتقد في العموم أن العلم يساعد الأفكار الجيدة في الانتصار على السيئة، فكثرة الأدلة في النهاية تدفع الادعاءات الزائفة جانبا.

ولكن بعض الأفكار لاتزال متداولة على الرغم من الأدلة ضدها. على الرغم من فقدان مصداقية الرابطة الواصلة بين اللقاحات المضادة والتوحد وإلا أنها لاتزال تسبب القلق والأذى، كما أن شكوك تغير المناخ لاتزال مستمرة في إحياء العلم الميت.

إذا لماذا من الصعب دحض بعض الأفكار السيئة ؟

من الامثلة الملفتة (zombie theory) تأتي من علم نفس الشخصية. علماء النفس الشخصي يدرسون الأفراد، كيف ولماذا يختلف الأفراد في أنماط سلوكهم وخبراتهم وكيف تؤثر هذه الاختلافات على حياتنا.

ولِما يقارب ٥٠ عاما، هناك فكرة هائجة ومحصنة ضد الأدلة والتي بدورها أثارت هذا المجال، وهذه الفكرة تدعى (situationism): وهي نظرية تقول بأن السلوك يتم تحديده من المواقف المحيطة بدلا من الصفات الشخصية.

هل الشخصية وهم؟

في عام ١٩٦٠ عرف عالم النفس الأمريكي والتر ميشيل الـ(situationism) بفكرة تفيد بأن سلوك الإنسان ينتج فقط من الموقف الذي حدث وليس من شخصية الفرد.

وفي كتابه (Personality and Assessment) الذي صدر عام ١٩٦٨م، أشار مايكل أن مفهوم الشخصية لا يمكن دعمه وذلك لأن تصرفات الناس تختلف باختلاف المواقف.

إذا لم يكن هناك أنماط متناسقة في سلوكنا وتفاعلنا ببساطة مجردة مثل الحرباء تجاه حالات مختلفة، إذن فإحساسنا بالشخصية الثابتة يصبح مجرد وهم. ومع تلك الفكرة، اندلع الحوار حول الشخص والموقف.

المواقف مقابل الشخصية.

مبدأ أن المواقف تؤثر على السلوك بلا شك صحيح. هل بإمكاننا أن نتخيل عالم لم يكن الناس فيه يغيرون تصرفاتهم وسلوكهم حسب المواقف المختلفة من مقابلات العمل إلى عشاء رومانسي؟

أظهر علماء نفس الشخصية مرارا وتكرارا أن متطلبات المواقف تشكل وتوجه سلوكنا. كما لاحظ غودرن ألبورت باعتباره واحدا من مؤسسي علم نفس الشخصية في عام ١٩٣٠م:

جميعنا نعلم أن الأفراد قد يكونون لطفاء ومهذبين وكريمين أثناء الصحبة أو في علاقات العمل وفي نفس الوقت يكونون وقحين، قاسين وأنانيين في المنزل.

ولكن هل من الممكن أن تعني هذه المرونة أنه لا يوجد تناسق في السلوك مما يجعل المفهوم للشخصية غير قابل للدعم؟ هل بعض الأفراد ليس لديهم ميول في أن يصبحوا على الدوام أكثر تهذيبا من غيرهم؟

هنا تختلف النتيجة من عدة التجارب. فهناك تناسق كبير فيما يتعلق بالاختلافات السلوكية بين الناس، سواء كان مع مرور الزمان أو من خلال المواقف. وهذه الميول ملتقطة بشكل جيد من خلال تقديرات الشخصية، كما أظهرت دراسة تلو الأخرى ذلك. وهذا يخبرنا أن الاختلافات الثابتة في الشخصيات حقيقية ومن الممكن ملاحظتها وأنها ليست مجرد أوهام.

أما بالنسبة لأهمية الشخصية، تظهر الأدلة أن سمات الشخصية تعتبر كأداة موثوقة للتنبؤ بالعديد من نتائج الحياة، من السلوكيات الاجتماعية إلى الأداء الوظيفي، ومن الإنجاز العلمي إلى الصحة والسعادة.

حالة من التناسق: دراسة حلوى الخطمي.

تعتبر مثال بارز على ثبات وقوة الشخصية حيث جاءت من بحث ميشيل، والذي أشار إليه أحدهم بأنه يدفعه للجنون.

ففي دراسة حلوى الخطمي قاس ميشيل قوة الإرادة لدى الأطفال عن طريق قياس المدة التي يستطيعون فيها مقاومة الإغراء لحلوى لذيذة. وتبين من هذا الاختبار البسيط أنه مقياس لميزة في الشخصية تدعى الضمير. وأيضا يتنبأ بالنتائج مستقبلا، متضمنا إنجازا علميا أعلى واستخدام أقل للمخدرات. لكن الحقائق التي برزت من هذا البحث ببساطة غير متوافقة مع نظرية (situationism).

التجربة في الرابط التالي:

إلغاء النظرية.

حتى قبل أن يتم إثبات بطلان نظرية (situationism) بالأدلة، كانت نظرية ميشيل غير منطقية. والسبب بالتحديد لأنها افترضت أن سلوك الفرد يمكن أن يكون ١٠٠٪ منسجم فقط أو غير منسجم، وفي هذه الحالة لن يكون هناك ما يسمى بالشخصية.

ولكن لماذا يجب أن يكون ملاحظة تغير السلوك يشير إلى انعدام الشخصية؟ فمن خلال هذا المنطق، لابد لنا من رفض مفهوم المناخ لأن الجو متغير.

في عام ١٩٩٠م معظم علماء نفس الشخصية اعتبروا نظرية(situationism) فاشلة. وفي نشرة بارزة كانت تتضمن أن المناقشة قد انتهت، لكن المجال مازال مستمرا والنظرية لم تلغى.

عودة النظرية.

مرارا وتكرارا فأن نظرية (situationism) تستمر بالظهور مسببة لعلماء النفس الشعور بظاهرة الديجا فو.

فقد انتشرت هذه النظرية خارج إطار علم النفس، مع ادعاء أحد علماء الاقتصاد السلوكي بأن مساهمة ميشيل في علم النفس كانت لإظهار أنه ليس هناك سمة شخصية مستقرة .

وعلى الرغم من أنها بقيت مدفونة من خلال عقود من الأبحاث، إلا أن هذه النظرية لاتزال تستمر بالظهور.

في يونيو من هذا العام أشار ميشيل إلى النظرية ذاتها مرة أخرى، من خلال حلقة البرودكاست الخاصة بقناة (NPR Invisibilia) بعنوان خرافة الشخصية. ومرة أخرى، لقد اُخبرنا أن الموقف هو الذي يحدد الأشياء وليس الشخص.

وقد تلقت هذه الرسالة التي لا أساس لها انتقادات حادة في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل علماء النفس البارزين.

كما لاحظ أحدهم:

بحوث الأدب المعاصرة أظهرت أن سمات الشخصية موجودة وتميل بأن تكون مستقرة على مر الزمان وتؤثر على نتائج مهمة في الحياة لم تذكر مطلقا.

لماذا نظرية (situationism) لايزال يتم إعادتها بعد عقود من الرفض؟ نحن نشتبه بأن هذا يمكن تفسيره من خلال عاملين.

الأول: هو أن كل إنسان يفضل التفكير الكسول. كما فسر دانيال في كتابة (Thinking Fast and Slow): بأنه عند مواجهة سؤال صعب غالبا ما نجيب بالإجابة الأسهل.

يكمن التفسير الثاني: في الإثارة المصاحبة للقصص المفاجئة. بعض من الأفكار المغرية في العلم والعلماء هي تلك التي نجدها بشكل مفاجئ أو تكون غير بديهية.

إن فكرة (situationist) التي تصف الشخصية بأنها وهم ملفتة، ولكنها خاطئة.

هوامش :

الديجا فو: هو إحساس وشعور غريب أو وَهْم وفوضى للذاكرة بأنّك عِشْت التجربة من قبل مع أنها لأوّل مرّة تحدث ولا يجب أن تكون مألوفة مُطلقاً.

المصدر: مجموعة نون العلمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى